الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)} قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} قد تقدّم الكلام في بلوغ الأشدّ في الأنعام، وقد قال ربيعة ومالك: هو الحلم لقوله تعالى: {حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْداً} [النساء: 6] الآية، وأقصاه أربع وثلاثون سنة كما قال مجاهد وسفيان الثوري وغيرهما. وقيل: الأشدّ ما بين الثمانية عشر إلى الثلاثين، والاستواء: من الثلاثين إلى الأربعين، وقيل: الاستواء هو بلوغ الأربعين، وقيل: الاستواء: إشارة إلى كمال الخلقة، وقيل: هو بمعنى واحد، وهو ضعيف؛ لأن العطف يشعر بالمغايرة {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} الحكم: الحكمة على العموم، وقيل: النبوّة. وقيل: الفقه في الدين. والعلم: الفهم، قاله السديّ. وقال مجاهد: الفقه. وقال ابن إسحاق: العلم بدينه ودين آبائه، وقيل: كان هذا قبل النبوّة، وقد تقدّم بيان معنى ذلك في البقرة {وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} أي مثل ذلك الجزاء الذي جزينا أمّ موسى لما استسلمت لأمر الله وألقت ولدها في البحر، وصدّقت بوعد الله نجزي المحسنين على إحسانهم، والمراد العموم. {وَدَخَلَ المدينة} أي ودخل موسى مدينة مصر الكبرى. وقيل: مدينة غيرها من مدائن مصر، ومحل قوله: {على حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا} النصب على الحال إما من الفاعل، أي مستخفياً، وإما من المفعول. قيل: لما عرف موسى ما هو عليه من الحق في دينه عاب ما عليه قوم فرعون، وفشا ذلك منه، فأخافوه، فخافهم، فكان لا يدخل المدينة إلاّ مستخفياً. قيل: كان دخوله بين العشاء والعتمة، وقيل: وقت القائلة. قال الضحاك: طلب أن يدخل المدينة وقت غفلة أهلها فدخل على حين علم منهم، فكان منه ما حكى الله سبحانه بقوله: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذا مِن شِيعَتِهِ} أي ممن شايعه على دينه، وهم بنو إسرائيل {وهذا مِنْ عَدُوّهِ} أي من المعادين له على دينه، وهم قوم فرعون {فاستغاثه الذي مِن شِيعَتِهِ} أي طلب منه أن ينصره، ويعينه على خصمه {عَلَى الذي مِنْ عَدُوّهِ} فأغاثه؛ لأن نصر المظلوم واجب في جميع الملل. قيل: أراد القبطي أن يسخر الإسرائيلي؛ ليحمل حطباً لمطبخ فرعون، فأبى عليه، واستغاث بموسى {فَوَكَزَهُ موسى} الوكز: الضرب بجمع الكف، وهكذا اللكز واللهز. وقيل: اللكز على اللحى، والوكز على القلب. وقيل: ضربه بعصاه. وقرأ ابن مسعود «فلكزه»، وحكى الثعلبي: أن في مصحف عثمان: «فنكزه» بالنون، قال الأصمعي: «نكزه» بالنون: ضربه، ودفعه. قال الجوهري: اللكز الضرب على الصدر. وقال أبو زيد: في جميع الجسد يعني: أنه يقال له: لكز، واللهز: الضرب بجميع اليدين في الصدر، ومثله عن أبي عبيدة {فقضى عَلَيْهِ} أي قتله، وكل شيء أتيت عليه، وفرغت منه: فقد قضيت عليه، ومنه قول الشاعر: قد عضه فقضى عليه الأشجع *** قيل: لم يقصد موسى قتل القبطي، وإنما قصد دفعه، فأتى ذلك على نفسه، ولهذا قال: {هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان} وإنما قال بهذا القول مع أن المقتول كافر حقيق بالقتل؛ لأنه لم يكن إذ ذاك مأموراً بقتل الكفار. وقيل: إن تلك الحالة حالة كفّ عن القتال لكونه مأموناً عندهم، فلم يكن له أن يغتالهم. ثم وصف الشيطان بقوله: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} أي: عدوّ للإنسان يسعى في إضلاله، ظاهر العداوة والإضلال. وقيل: إن الإشارة بقوله: {هذا} إلى عمل المقتول لكونه كافراً مخالفاً لما يريده الله. وقيل: إنه إشارة إلى المقتول نفسه يعني: أنه من جند الشيطان وحزبه. ثم طلب من الله سبحانه: أن يغفر له ما وقع منه: {قَالَ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ} الله {لَهُ} ذلك {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} ووجه استغفاره: أنه لم يكن لنبيّ أن يقتل حتى يؤمر، وقيل: إنه طلب المغفرة من تركه للأولى كما هو سنة المرسلين، أو أراد إني ظلمت نفسي بقتل هذا الكافر؛ لأن فرعون لو يعرف ذلك لقتلني به، ومعنى {فاغفر لِي}: فاستر ذلك عليّ لا تطلع عليه فرعون، وهذا خلاف الظاهر فإن موسى عليه السلام ما زال نادماً على ذلك خائفاً من العقوبة بسببه، حتى إنه يوم القيامة عند طلب الناس الشفاعة منه يقول: إني قتلت نفساً لم أومر بقتلها، كما ثبت ذلك في حديث الشفاعة الصحيح. وقد قيل: إن هذا كان قبل النبوّة. وقيل: كان ذلك قبل بلوغه سنّ التكليف، وإنه كان إذ ذاك في اثنتي عشرة سنة، وكل هذه التأويلات البعيدة محافظة على ما تقرر من عصمة الأنبياء، ولا شك أنهم معصومون من الكبائر، والقتل الواقع منه لم يكن عن عمد فليس بكبيرة، لأن الوكزة في الغالب لا تقتل. ثم لما أجاب الله سؤاله، وغفر له ما طلب منه مغفرته، قال: {رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} هذه الباء يجوز أن تكون باء القسم والجواب مقدر أي: أقسم بإنعامك عليّ لأتوبنّ، وتكون جملة: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ} كالتفسير للجواب وكأنه أقسم بما أنعم الله عليه أن لا يظاهر مجرماً. ويجوز أن تكون هذه الباء هي باء السببية متعلقة بمحذوف، أي اعصمني بسبب ما أنعمت به عليّ، ويكون قوله: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً} مترتباً عليه، ويكون في ذلك استعطاف لله تعالى، وتوصل إلى إنعامه بإنعامه، و«ما» في قوله: {بِمَا أَنْعَمْتَ} إما موصولة، أو مصدرية، والمراد بما أنعم به عليه: هو ما آتاه من الحكم والعلم أو بالمغفرة أو بالجميع، وأراد بمظاهرة المجرمين: إما صحبة فرعون والانتظام في جملته في ظاهر الأمر، أو مظاهرته على ما فيه إثم. قال الكسائي، والفراء: ليس قوله: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ} خبراً بل هو دعاء، أي فلا تجعلني يا ربّ ظهيراً لهم. قال الكسائي، وفي قراءة عبد الله: «فلا تجعلني يا ربّ ظهيراً للمجرمين» وقال الفراء: المعنى: اللهم فلن أكون ظهيراً للمجرمين. وقال النحاس: إن جعله من باب الخبر أوفى وأشبه بنسق الكلام. {فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} أي دخل في وقت الصباح في المدينة التي قتل فيها القبطي، و{خائفاً} خبر {أصبح} ويجوز أن يكون حالاً، والخبر: {في المدينة}، و{يترقب} يجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون حالاً ثانية، وأن يكون بدلاً من {خائفاً}، ومفعول {يترقب} محذوف، والمعنى: يترقب المكروه أو يترقب الفرح {فَإِذَا الذي استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ} إذا هي الفجائية، والموصول مبتدأ، وخبره: {يستصرخه} أي فإذا صاحبه الإسرائيلي الذي استغاثه بالأمس يقاتل قبطياً آخر، أراد أن يسخره ويظلمه كما أراد القبطي الذي قد قتله موسى بالأمس، والاستصراخ: الاستغاثة، وهو من الصراخ، وذلك أن المستغيث يصوّت، ويصرخ في طلب الغوث، ومنه قول الشاعر: كنا إذا ما أتانا صارخ فزع *** كان الجواب له قرع الظنابيب {قَالَ لَهُ موسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} أي بين الغواية، وذلك أنك تقاتل من لا تقدر على مقاتلته، ولا تطيقه. وقيل: إنما قال له هذه المقالة؛ لأنه تسبب بالأمس لقتل رجل يريد اليوم أن يتسبب لقتل آخر. {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا} أي يبطش بالقبطي الذي هو عدوّ لموسى، وللإسرائيلي حيث لم يكن على دينهما، وقد تقدّم معنى يبطش، واختلاف القراء فيه. {قَالَ ياموسى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس} القائل هو الإسرائيلي لما سمع موسى يقول له: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} ورآه يريد أن يبطش بالقبطي ظن أنه يريد أن يبطش به، فقال لموسى: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس} فلما سمع القبطي ذلك أفشاه، ولم يكن قد علم أحد من أصحاب فرعون أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس حتى أفشى عليه الإسرائيلي، هكذا قال جمهور المفسرين. وقيل: إن القائل: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس} هو القبطي، وكان قد بلغه الخبر من جهة الإسرائيلي، وهذا هو الظاهر، وقد سبق ذكر القبطي قبل هذا بلا فصل؛ لأنه هو المراد بقوله عَدُوٌّ لَّهُمَا، ولا موجب لمخالفة الظاهر حتى يلزم عنه أن المؤمن بموسى المستغيث به المرّة الأولى، والمرّة الأخرى هو الذي أفشى عليه، وأيضاً إن قوله: {إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض} لا يليق صدور مثله إلاّ من كافر، و«إن» في قوله: {إِن تُرِيدُ} هي النافية، أي ما تريد إلاّ أن تكون جباراً في الأرض، قال الزجاج: الجبار في اللغة: الذي لا يتواضع لأمر الله، والقاتل بغير حق جبار. وقيل: الجبار: الذي يفعل ما يريد من الضرب، والقتل، ولا ينظر في العواقب، ولا يدفع بالتي هي أحسن {وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين} أي الذين يصلحون بين الناس. {وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى المدينة يسعى} قيل: المراد بهذا الرجل: حزقيل، وهو مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم موسى، وقيل: اسمه شمعون، وقيل: طالوت، وقيل: شمعان. والمراد بأقصى المدينة: آخرها وأبعدها، و{يسعى} يجوز أن يكون في محل رفع صفة لرجل، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال، لأن لفظ رجل وإن كان نكرة فقد تخصص بقوله: مِنْ أَقْصَى المدينة، {قَالَ ياموسى إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} أي يتشاورون في قتلك، ويتآمرون بسببك. قال الزجاج: يأمر بعضهم بعضاً بقتلك، وقال أبو عبيد: يتشاورون فيك ليقتلوك: يعني: أشراف قوم فرعون. قال الأزهري: ائتمر القوم وتآمروا، أي أمر بعضهم بعضاً، نظيره قوله: {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6] قال النمر بن تولب: أرى الناس قد أحدثوا شيمة *** وفي كل حادثة يؤتمر {فاخرج إِنّي لَكَ مِنَ الناصحين} في الأمر بالخروج، واللام للبيان؛ لأن معمول المجرور لا يتقدم عليه {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} فخرج موسى من المدينة حال كونه خائفاً من الظالمين مترقباً لحوقهم به، وإدراكهم له، ثم دعا ربه بأن ينجيه مما خافه قائلاً: {رَبّ نَجّنِي مِنَ القوم الظالمين} أي خلصني من القوم الكافرين، وادفعهم عني، وحلّ بيني وبينهم {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ} أي نحو مدين قاصداً لها. قال الزجاج: أي سلك في الطريق الذي تلقاء مدين فيها. انتهى. يقال: داره تلقاء دار فلان، وأصله من اللقاء، ولم تكن هذه القرية داخلة تحت سلطان فرعون، ولهذا خرج إليها {قَالَ عسى رَبّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السبيل} أي يرشدني نحو الطريق المستوية إلى مدين. {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ} أي وصل إليه، وهو الماء الذي يستقون منه {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ الناس يَسْقُونَ} أي وجد على الماء جماعة كثيرة من الناس يسقون مواشيهم، ولفظ الورود قد يطلق على الدخول في المورد، وقد يطلق على البلوغ إليه، وإن لم يدخل فيه، وهو المراد هنا، ومنه قول زهير: فلما وردنا الماء زرقا حمامه *** وقد تقدم تحقيق معنى الورود في قوله: {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] وقيل: مدين اسم للقبيلة لا للقرية، وهي غير منصرفة على كلا التقديرين. {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ} أي من دون الناس الذين يسقون ما بينهم وبين الجهة التي جاء منها، وقيل: معناه: في موضع أسفل منهم {امرأتين تَذُودَانِ} أي تحبسان أغنامهما من الماء حتى يفرغ الناس، ويخلو بينهما وبين الماء، ومعنى الذود: الدفع، والحبس، ومنه قول الشاعر: أبيت على باب القوافي كأنما *** أذود بها سرباً من الوحش نزّعا أي: أحبس، وأمنع، وورد الذود بمعنى الطرد، ومنه قول الشاعر: لقد سلبت عصاك بنو تميم *** فما تدري بأي عصى تذود أي: تطرد {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} أي: قال موسى للمرأتين: ما شأنكما لا تسقيان غنمكما مع الناس؟ والخطب: الشأن، قيل: وإنما يقال: ما خطبك لمصاب، أو مضطهد، أو لمن يأتي بمنكر {قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعاء} أي إن عادتنا التأني حتى يصدر الناس عن الماء، وينصرفوا منه حذراً من مخالطتهم، أو عجزاً عن السقي معهم. قرأ الجمهور: {يصدر} بضم الياء، وكسر الدال مضارع أصدر المتعدّى بالهمزة. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بفتح الياء وضم الدال من صدر يصدر لازماً، فالمفعول على القراءة الأولى محذوف، أي يرجعون مواشيهم، والرعاء جمع راع. قرأ الجمهور: {الرعاء} بكسر الراء. وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بفتحها. قال أبو الفضل: هو مصدر أقيم مقام الصفة، فلذلك استوى فيه الواحد، والجمع. وقرئ: «الرعاء» بالضم اسم جمع. وقرأ طلحة بن مصرف: «نسقى» بضم النون من أسقى {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} عالي السن، وهذا من تمام كلامهما، أي لا يقدر أن يسقي ماشيته من الكبر، فلذلك احتجنا، ونحن امرأتان ضعيفتان أن نسقي الغنم لعدم وجود رجل يقوم لنا بذلك فلما سمع موسى كلامهما {سقى لهما} رحمة لهما، أي سقى أغنامهما لأجلهما، «ثم» لما فرغ من السقي لهما {تولى إِلَى الظل} أي: انصرف إليه، فجلس فيه. قيل: كان هذا الظل ظل سمرة هنالك. ثم قال لما أصابه من الجهد، والتعب منادياً لربه {إِنّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ} أيّ خير كان {فَقِيرٌ} أي محتاج إلى ذلك. قيل: أراد بذلك الطعام، واللام في: {لِمَا أَنزَلْتَ} معناها: إلى. قال الأخفش: يقال: هو فقير له، وإليه. وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، والمحاملي في أماليه من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} قال: ثلاثاً وثلاثين سنة {واستوى} قال: أربعين سنة. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب المعمرين من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه قال: الأشد: ما بين الثماني عشرة إلى الثلاثين، والاستواء: ما بين الثلاثين إلى الأربعين، فإذا زاد على الأربعين أخذ في النقصان. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضاً في قوله: {وَدَخَلَ المدينة على حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا} قال: نصف النهار. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء الخراساني، عنه أيضاً في الآية قال: ما بين المغرب والعشاء. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً {هذا مِن شِيعَتِهِ} قال: إسرائيلي {وهذا مِنْ عَدُوّهِ} قال: قبطي {فاستغاثه الذي مِن شِيعَتِهِ} الإسرائيلي {عَلَى الذي مِنْ عَدُوّهِ} القبطي {فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ} قال: فمات، قال: فكبر ذلك على موسى. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {فَإِذَا الذي استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ} قال: هو صاحب موسى الذي استنصره بالأمس. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: الذي استنصره هو الذي استصرخه. وأخرج ابن المنذر عن الشعبي قال: من قتل رجلين فهو جبار، ثم تلا هذه الآية: {إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض}، وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لا يكون الرجل جباراً حتى يقتل نفسين. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال: خرج موسى خائفاً يترقب جائعاً ليس معه زاد حتى انتهى إلى ماء مدين، و{عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ الناس يَسْقُونَ}، وامرأتان جالستان بشياههما، فسألهما: {مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} قال: فهل قربكما ماء؟ قالتا: لا، إلاّ بئر عليها صخرة قد غطيت بها لا يطيقها نفر، قال: فانطلقا، فأريانيها، فانطلقتا معه، فقال بالصخرة بيده، فنحاها، ثم استقى لهم سجلاً واحداً فسقى الغنم، ثم أعاد الصخرة إلى مكانها {ثُمَّ تولى إِلَى الظل فَقَالَ رَبّ إِنّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}، فسمعتا، قال: فرجعتا إلى أبيهما فاستنكر سرعة مجيئهما، فسألهما فأخبرتاه، فقال لإحداهما: انطلقي فادعيه، فأتت، فقالت: {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} فمشت بين يديه، فقال لها: امشي خلفي، فإني امرؤ من عنصر إبراهيم لا يحلّ لي أن أرى منك ما حرّم الله عليّ، وأرشديني الطريق {فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت استئجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استجرت القوي الأمين} قال لها أبوها: ما رأيت من قوّته وأمانته؟ فأخبرته بالأمر الذي كان، قالت: أما قوّته فإنه قلب الحجر وحده، وكان لا يقلبه إلاّ النفر. وأما أمانته فقال: امشي خلفي وأرشديني الطريق لأني امرؤ من عنصر إبراهيم لا يحلّ لي منك ما حرّمه الله. قيل لابن عباس: أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال: أبرّهما وأوفاهما. وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة في المصنف، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب قال: إن موسى لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون، فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ولا يطيق رفعها إلاّ عشرة رجال، فإذا هو بامرأتين، قال: ما خطبكما؟ فحدّثتاه، فأتى الحجر، فرفعه وحده، ثم استقى فلم يستق إلاّ ذنوباً واحداً حتى رويت الغنم، فرجعت المرأتان إلى أبيهما، فحدّثتاه، وتولى موسى إلى الظلّ فقال: {ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير}. قال: {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى استحياء} واضعة ثوبها على وجهها ليست بسلفع من النساء خرّاجة ولاجة {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} فقام معها موسى، فقال لها: إمشي خلفي وانعتي لي الطريق، فإني أكره أن يصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك، فلما انتهى إلى أبيها قصّ عليه، فقالت إحداهما: {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القويّ الأمين} قال: يا بنية ما علمك بأمانته وقوّته؟ قالت: أما قوّته فرفعه الحجر ولا يطيقه إلاّ عشرة رجال، وأما أمانته فقال: امشي خلفي وانعتي لي الطريق؛ فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك، فتصف لي جسدك، فزاده ذلك رغبة فيه، فقال: {إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ} إلى قوله: {سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصالحين} أي في حسن الصحبة، والوفاء بما قلت {قَالَ} موسى: {ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ} قال: نعم، قال: {والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} فزوَّجه، وأقام معه يكفيه ويعمل في رعاية غنمه، وما يحتاج إليه، وزوجه صفوراً وأختها شرفاً، وهما اللتان كانتا تذودان. قال ابن كثير بعد إخراجه لطرق من هذا الحديث: إن إسناده صحيح. والسلفع من النساء الجريئة السليطة. وأخرج أحمد في الزهد، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ} قال: ورد الماء حيث ورد، وإنه لتتراءى خضرة البقل في بطنه من الهزال. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: خرج موسى من مصر إلى مدين وبينه وبينها ثماني ليالٍ، ولم يكن له طعام إلاّ ورق الشجر، وخرج حافياً، فما وصل إليها حتى وقع خفّ قدمه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً قال: {تَذُودَانِ}: تحبسان غنمهما حتى ينزع الناس، ويخلو لهما البئر. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، والضياء في المختارة عنه أيضاً قال: لقد قال موسى: {ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير} وهو أكرم خلقه عليه، ولقد افتقر إلى شقّ تمرة، ولقد لصق بطنه بظهره من شدّة الجوع. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: ما سأل إلاّ الطعام. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: سأل فلقاً من الخبز يشدّ بها صلبه من الجوع.
{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)} قوله: {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحياء} في الكلام حذف يدل عليه السياق. قال الزجاج: تقديره: فذهبتا إلى أبيهما سريعتين، وكانت عادتهما الإبطاء في السقي، فحدّثتاه بما كان من الرجل الذي سقى لهما، فأمر الكبرى من بنتيه، وقيل: الصغرى أن تدعوه له، فجاءته. وذهب أكثر المفسرين إلى أنهما ابنتا شعيب، وقيل: هما ابنتا أخي شعيب، وأن شعيباً كان قد مات. والأوّل أرجح، وهو ظاهر القرآن. ومحلّ {تَمْشِي} النصب على الحال من فاعل جاءت، {وعلى استحياء} حال أخرى، أي كائنة على استحياء حالتي المشي والمجيء فقط، وجملة: {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ماذا قالت له لما جاءته؟ {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} أي جزاء سقيك لنا {فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص} القصص مصدر سمي به المفعول أي: المقصوص يعني أخبره بجميع ما اتفق له من عند قتله القبطيّ إلى عند وصوله إلى ماء مدين {قَالَ} شعيب: {لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين} أي فرعون وأصحابه؛ لأن فرعون لا سلطان له على مدين، وللرازي في هذا الموضع إشكالات باردة جدًّا لا تستحق أن تذكر في تفسير كلام الله عزّ وجلّ، والجواب عليها يظهر للمقصر فضلاً عن الكامل، وأشفّ ما جاء به أن موسى كيف أجاب الدعوة المعللة بالجزاء لما فعله من السقي. ويجاب عنه: بأنه اتبع سنة الله في إجابة دعوة نبيّ من أنبياء الله، ولم تكن تلك الإجابة لأجل أخذ الأجر على هذا العمل، ولهذا ورد أنه لما قدّم إليه الطعام قال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهباً. {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت استئجره} القائلة هي التي جاءته، أي استأجره ليرعى لنا الغنم، وفيه دليل على أن الإجارة كانت عندهم مشروعة. وقد اتفق على جوازها، ومشروعيتها جميع علماء الإسلام إلا الأصم فإنه عن سماع أدلتها أصمّ، وجملة: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ استئجرت القوى الأمين} تعليل لما وقع منها من الإرشاد لأبيها إلى استئجار موسى، أي إنه حقيق باستئجارك له لكونه جامعاً بين خصلتي القوّة والأمانة. وقد تقدّم في المرويّ عن ابن عباس، وعمر: أن أباها سألها عن وصفها له بالقوّة والأمانة فأجابته بما تقدّم قريباً: {قَالَ إِنّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ} فيه مشروعية عرض وليّ المرأة لها على الرجل، وهذه سنة ثابتة في الإسلام، كما ثبت من عرض عمر لابنته حفصة على أبي بكر وعثمان، والقصة معروفة، وغير ذلك مما وقع في أيام الصحابة أيام النبوّة، وكذلك ما وقع من عرض المرأة لنفسها على رسول الله صلى الله عليه وسلم. {على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} أي على أن تكون أجيراً لي ثماني سنين. قال الفراء: يقول: على أن تجعل ثوابي أن ترعى غنمي ثماني سنين، ومحل: {على أَن تَأْجُرَنِي} النصب على الحال، وهو مضارع أجرته، ومفعوله الثاني محذوف، أي نفسك و{ثَمَانِيَ حِجَجٍ} ظرف. قال المبرد: يقال: أجرت داري ومملوكي غير ممدود وممدوداً، والأوّل أكثر {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ} أي إن أتممت ما استأجرتك عليه من الرعي عشر سنين فمن عندك، أي تفضلاً منك لا إلزاماً مني لك، جعل ما زاد على الثمانية الأعوام إلى تمام عشرة أعوام، موكولاً إلى المروءة. ومحل {فَمِنْ عِندِكَ} الرفع على تقدير مبتدأ، أي: فهي من عندك {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} بإلزامك إتمام العشرة الأعوام، واشتقاق المشقة من الشقّ، أي شق ظنه نصفين، فتارة يقول: أطيق، وتارة يقول: لا أطيق. ثم رغبه في قبول الإجارة فقال: {سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصالحين} في حسن الصحبة والوفاء. وقيل: أراد الصلاح على العموم، فيدخل صلاح المعاملة في تلك الإجارة تحت الآية دخولاً أولياً، وقيد ذلك بالمشيئة تفويضاً للأمر إلى توفيق الله ومعونته. ثم لما فرغ شعيب من كلامه قرره موسى فقال: {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} واسم الإشارة مبتدأ، وخبره ما بعده، والإشارة إلى ما تعاقدا عليه، وجملة: {أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ} شرطية، وجوابها: {فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ}، والمراد بالأجلين: الثمانية الأعوام والعشرة الأعوام، ومعنى {قضيَت}: وفيت به، وأتممته، والأجلين مخفوض بإضافة أيّ إليه، وما زائدة. وقال ابن كيسان: «ما» في موضع خفض بإضافة أيّ إليها، والأجلين بدل منها، وقرأ الحسن: " أيما " بسكون الياء، وقرأ ابن مسعود: " أيّ الأجلين ما قضيت " ومعنى {فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ}: فلا ظلم عليّ بطلب الزيادة على ما قضيته من الأجلين، أي كما لا أطالب بالزيادة على الثمانية الأعوام لا أطالب بالنقصان على العشرة. وقيل: المعنى كما لا أطالب بالزيادة على العشرة الأعوام لا أطالب بالزيادة على الثمانية الأعوام، وهذا أظهر. وأصل العدوان: تجاوز الحد في غير ما يجب. قال المبرد: وقد علم موسى أنه لا عدوان عليه إذا أتمهما، ولكنه جمعهما؛ ليجعل الأوّل كالأتمّ في الوفاء. قرأ الجمهور: {عدوان} بضم العين. وقرأ أبو حيوة بكسرها. {والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} أي على ما نقول من هذه الشروط الجارية بيننا شاهد وحفيظ، فلا سبيل لأحدنا إلى الخروج عن شيء من ذلك. قيل: هو من قول موسى. وقيل: من قول شعيب، والأوّل أولى لوقوعه في جملة كلام موسى. {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل} هو أكملهما، وأوفاهما، وهو العشرة الأعوام، كما سيأتي آخر البحث، والفاء فصيحة {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} إلى مصر، وفيه دليل على أن الرجل يذهب بأهله حيث شاء {آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً قَالَ} أي أبصر من الجهة التي تلي الطور ناراً، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة طه مستوفًى. {قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إِنّي ءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِي ءَاتِيكُمْ مّنْهَا بِخَبَرٍ} وهذا تقدّم تفسيره أيضاً في سورة طه، وفي سورة النمل. {أَوْ جَذْوَةٍ} قرأ الجمهور بكسر الجيم، وقرأ حمزة ويحيى بن وثاب بضمها، وقرأ عاصم، والسلمي، وذرّ بن حبيش بفتحها. قال الجوهري: الجِذوة والجُذوة والجَذوة: الجمرة، والجمع جِذَى وجُذى وجَذى. قال مجاهد: في الآية أن الجذوة قطعة من الجمر في لغة جميع العرب. وقال أبو عبيدة: هي القطعة الغليظة من الخشب كأن في طرفها ناراً، ولم يكن، ومما يؤيد أن الجذوة الجمرة قول السلمي: وبدلت بعد المسك والبان شقوة *** دخان الجذا في رأس أشمط شاحب {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي تستدفئون بالنار {فَلَمَّا أتاها} أي: أتى النار التي أبصرها، وقيل: أتى الشجرة، والأوّل أولى لعدم تقدّم الذكر للشجرة {نُودِيَ مِن شَاطِيء الواد الأيمن}: «من» لابتداء الغاية، و{الأيمن} صفة للشاطئ، وهو من اليمن وهو البركة، أو من جهة اليمين المقابل لليسار بالنسبة إلى موسى، أي الذي يلي يمينه دون يساره، وشاطئ الوادي: طرفه. وكذا شطه. قال الراغب: وجمع الشاطئ أشطاء، وقوله: {فِي البقعة المباركة} متعلق ب {نودي} أو بمحذوف على أنه حال من الشاطئ، و{مِنَ الشجرة} بدل اشتمال من شاطئ الواد؛ لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ. وقال الجوهري: يقول: شاطئ الأودية ولا يجمع. قرأ الجمهور: {في البقعة} بضم الباء، وقرأ أبو سلمة والأشهب العقيلي بفتحها، وهي لغة حكاها أبو زيد {أَن ياموسى إِنّي أَنَا الله}: «أن» هي المفسرة، ويجوز أن تكون هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وجملة النداء مفسرة له، والأوّل أولى. قرأ الجمهور بكسر همزة {إني} على إضمار القول أو على تضمين النداء معناه. وقرئ بالفتح، وهي قراءة ضعيفة. وقوله: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} معطوف على {أَن ياموسى} وقد تقدّم تفسير هذا وما بعده في طه والنمل، وفي الكلام حذف، والتقدير: فألقاها فصارت ثعباناً فاهتزت {فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} في سرعة حركتها مع عظم جسمها {ولى مُدْبِراً} أي منهزماً، وانتصاب {مدبراً} على الحال وقوله: {وَلَمْ يُعَقّبْ} في محل نصب أيضاً على الحال أي لم يرجع {ياموسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين} قد تقدّم تفسير جميع ما ذكر هنا مستوفى فلا نعيده، وكذلك قوله: {اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} جناح الإنسان: عضده، ويقال لليد كلها: جناح، أي اضمم إليك يديك المبسوطتين؛ لتتقي بهما الحية كالخائف الفزع، وقد عبر عن هذا المعنى بثلاث عبارات: الأولى: {اسلك يدك في جيبك}. والثانية: {واضمم إليك جناحك}. والثالثة: {وأدخل يدك في جيبك}. ويجوز أن يراد بالضم التجلد والثبات عند انقلاب العصا ثعباناً. ومعنى {مِنَ الرهب}: من أجل الرهب، وهو الخوف. قرأ الجمهور: «الرهب» بفتح الراء والهاء، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم وقرأ حفص والسلمي وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق بفتح الراء وإسكان الهاء. وقرأ ابن عامر والكوفيون إلاّ حفصاً بضم الراء وإسكان الهاء. وقال الفراء: أراد بالجناح: عصاه، وقال بعض أهل المعاني: الرهب: الكمّ بلغة حمير وبني حنيفة. قال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول لآخر: أعطني ما في رهبك، فسألته عن الرهب، فقال: الكم. فعلى هذا يكون اضمم إليك يدك وأخرجها من الكمّ {فَذَانِكَ} إشارة إلى العصا واليد {برهانان مِن رَّبّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ} أي: حجتان نيرتان ودليلان واضحان، قرأ الجمهور: {فذانك} بتخفيف النون، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديدها، قيل: والتشديد لغة قريش. وقرأ ابن مسعود وعيسى بن عمر وشبل وأبو نوفل بياء تحتية بعد نون مكسورة، والياء بدل من إحدى النونين، وهي لغة هذيل، وقيل: لغة تميم، وقوله: {مِن رَبّكَ} متعلق بمحذوف، أي كائنان منه، وكذلك قوله: {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ} متعلق بمحذوف، أي مرسلان، أو واصلان إليهم {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين}: متجاوزين الحدّ في الظلم، خارجين عن الطاعة أبلغ خروج، والجملة تعليل لما قبلها. وقد أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن أبي الهذيل عن عمر بن الخطاب في قوله: {تَمْشِي عَلَى استحياء} قال: جاءت مستترة بكمّ درعها على وجهها. وأخرجه ابن المنذر عن أبي الهذيل موقوفاً عليه. وأخرج ابن عساكر عن أبي حازم قال: لما دخل موسى على شعيب إذا هو بالعشاء، فقال له شعيب: كل، قال موسى: أعوذ بالله، قال: ولم؟ ألست بجائع؟ قال: بلى، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً عما سقيت لهما، وأنا من أهل بيت لا نبيع شيئاً من عمل الآخرة بملء الأرض ذهباً، قال: لا والله، ولكنها عادتي وعادة آبائي، نقري الضيف ونطعم الطعام، فجلس موسى فأكل. وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك بن أنس أنه بلغه أن شعيباً هو الذي قصّ عليه القصص. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: كان صاحب موسى أثرون ابن أخي شعيب النبي. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: الذي استأجر موسى يثربي صاحب مدين. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه قال: كان اسم ختن موسى يثربي. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال: يقول أناس: إنه شعيب، وليس بشعيب، ولكنه سيد الماء يومئذٍ. وأخرج ابن ماجه والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن عتبة بن المنذر السلمي قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ سورة: {طسم} حتى إذا بلغ قصة موسى قال: «إن موسى أجر نفسه ثماني سنين أو عشراً على عفة فرجه وطعام بطنه، فلما وفى الأجل» قيل: يا رسول الله، أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال: «أبرّهما وأوفاهما، فلما أراد فراق شعيب أمر امرأته: أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به، فأعطاها ما ولدت غنمه» الحديث بطوله. وفي إسناده مسلمة بن علي الحسني الدمشقي البلاطي ضعفه الأئمة. وقد روي من وجه آخر، وفيه نظر. وإسناده عند ابن أبي حاتم هكذا: حدثنا أبو زرعة عن يحيى بن عبد الله بن بكير، حدّثني ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي قال: سمعت عتبة ابن المنذر السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. وابن لهيعة ضعيف، وينظر في بقية رجال السند. وأخرج ابن جرير عن أنس طرفاً منه موقوفاً عليه. وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة في المصنف، وعبد بن حميد والبخاري وابن المنذر وابن مردويه من طرق عن ابن عباس: أنه سئل: أيّ الأجلين قضى موسى؟ فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله إذا قال فعل. وأخرج البزار وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه عنه نحوه، وقوله: «إن رسول الله إذا قال فعل» فيه نظر؛ فإن موسى لم يقل إنه سيقضي أكثر الأجلين بل قال: {أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ}. وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن موسى قضى أتمّ الأجلين من طرق. وأخرج الخطيب في تاريخه عن أبي ذرّ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى؟ فقل: خيرهما وأبرهما، وإن سئلت أيّ المرأتين تزوّج؟ فقل الصغرى منهما، وهي التي جاءت فقالت: {يا أبت استأجره}» وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال لي جبريل: يا محمد إن سألك اليهود أيّ الأجلين قضى موسى؟ فقل: أوفاهما، وإن سألوك أيهما تزوّج؟ فقل: الصغرى منهما» وأخرج البزار وابن أبن حاتم، والطبراني في الأوسط، وابن مردويه. قال السيوطي: بسندٍ ضعيف، عن أبي ذرّ: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال: «أبرّهما وأوفاهما»، قال: «وإن سئلت أيّ المرأتين تزوّج؟ فقل: الصغرى منهما» قال البزار: لا نعلم يروي عن أبي ذر إلاّ بهذا الإسناد، وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث عويد بن أبي عمران، وهو ضعيف. وأما روايات أنه قضى أتمّ الأجلين فلها طرق يقوّي بعضها بعضاً. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدّي قال: قال ابن عباس: لما قضى موسى الأجل سار بأهله، فضلّ الطريق، وكان في الشتاء فرفعت له نار، فلما رآها ظنّ أنها نار، وكانت من نور الله {فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إِنّي ءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلّي آتِيكُمْ مّنْهَا بِخَبَرٍ} فإن لم أجد خبراً آتيكم بشهاب قبس {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} من البرد. وأخرج ابن أبي حاتم عنه: {لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} لعلي أجد من يدلني على الطريق، وكانوا قد ضلوا الطريق. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {أَوْ جَذْوَةٍ} قال: شهاب. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {نُودِيَ مِن شَاطِئ الواد} قال: كان النداء من السماء الدنيا، وظاهر القرآن يخالف ما قاله رضي الله عنه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن عبد الله بن مسعود قال: ذكرت لي الشجرة التي أوى إليها موسى، فسرت إليها يومي وليلتي حتى صبحتها، فإذا هي سمرة خضراء ترف، فصليت على النبي صلى الله عليه وسلم وسلمت، فأهوى إليها بعيري وهو جائع، فأخذ منها ملء فيه فلاكه فلم يستطع أن يسيغه، فلفظه، فصليت على النبيّ وسلمت، ثم انصرفت. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} قال: يدك.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)} لما سمع موسى قول الله سبحانه: {فَذَانِكَ برهانان مِن رَّبِّك إلى فِرْعَوْنَ} طلب منه سبحانه أن يقوّي قلبه، فقال: {رَبّ إِنّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً} يعني القبطي الذي وكزه فقضى عليه {فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} بها. {وَأَخِى هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّي لِسَاناً} لأنه كان في لسان موسى حبسة كما تقدّم بيانه، والفصاحة لغةً: الخلوص، يقال: فصح اللبن، وأفصح: فهو فصيح، أي خلص من الرغوة، ومنه فصح الرجل: جادت لغته، وأفصح: تكلم بالعربية. وقيل: الفصيح: الذي ينطق، والأعجم: الذي لا ينطق. وأما في اصطلاح أهل البيان فالفصاحة: خلوص الكلمة عن تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس. وفصاحة الكلام: خلوصه من ضعف التأليف، والتعقيد. وانتصاب {رِدْءاً} على الحال، والردء: المعين، من أردأته، أي أعنته، يقال: فلان ردء فلان: إذا كان ينصره، ويشدّ ظهره، ومنه قول الشاعر: ألم تر أن أصرم كان ردئي *** وخير الناس في قلّ ومال وحذفت الهمزة تخفيفاً في قراءة نافع، وأبي جعفر، ويجوز أن يكون ترك الهمز من قولهم: أردى على المائة: إذا زاد عليها، فكان المعنى: أرسله معي زيادة في تصديقي، ومنه قول الشاعر: وأسمر خطياً كأن كعوبه *** نوى القسب قد أردى ذراعاً على العشر وروي البيت في الصحاح بلفظ قد أربى، والقسب: الصلب، وهو الثمر اليابس الذي يتفتت في الفم، وهو صلب النواة. {يُصَدّقُنِي} قرأ عاصم وحمزة: {يصدقني} بالرفع على الاستئناف، أو الصفة ل {ردءاً}، أو الحال من مفعول أرسله، وقرأ الباقون بالجزم على جواب الأمر، وقرأ أبي وزيد بن عليّ: «يصدقون» أي فرعون وملؤه {إِنّي أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ} إذا لم يكن معي هارون لعدم انطلاق لساني بالمحاجة. {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} أي نقويك به، فشدّ العضد كناية عن التقوية، ويقال في دعاء الخير: شدّ الله عضدك، وفي ضدّه: فتّ الله في عضدك. قرأ الجمهور: {عضُدك} بفتح العين. وقرأ الحسين وزيد ابنا عليّ بضمها. وروي عن الحسن أيضاً أنه قرأ بضمة وسكون. وقرأ عيسى بن عمر بفتحهما. {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سلطانا} أي حجة وبرهاناً، أو تسلطاً عليه، وعلى قومه {فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} بالأذى ولا يقدرون على غلبتكما بالحجة، و{بئاياتنا} متعلق بمحذوف، أي تمتنعان منهم بآياتنا، أو اذهبا بآياتنا. وقيل: الباء للقسم، وجوابه {يصلون} وما أضعف هذا القول. وقال الأخفش وابن جرير: في الكلام تقديم، وتأخير، والتقدير: {أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون} بآياتنا، وأوّل هذه الوجوه أولاها، وفي: {أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون} تبشير لهما، وتقوية لقلوبهما. {فَلَمَّا جَاءهُم موسى بئاياتنا بينات} البينات: الواضحات الدلالة، وقد تقدّم وجه إطلاق الآيات، وهي جمع على العصا، واليد في سورة طه {قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى} أي مختلق مكذوب اختلقته من قبل نفسك {وَمَا سَمِعْنَا بهذا} الذي جئت به من دعوى النبوّة، أو ما سمعنا بهذا السحر {في آبَآئِنَا الأولين} أي كائناً، أو واقعاً في آبائنا الأوّلين. {وَقَالَ موسى رَبّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بالهدى مِنْ عِندِهِ} يريد نفسه، وإنما جاء بهذه العبارة؛ لئلا يصرّح لهم بما يريده قبل أن يوضح لهم الحجة، والله أعلم. قرأ الجمهور: {وقال موسى} بالواو، وقرأ مجاهد وابن كثير وابن محيصن: «قال موسى» بلا واو، وكذلك هو في مصاحف أهل مكة. وقرأ الكوفيون إلا عاصماً: «ومن يكون عاقبة الدار» بالتحتية على أن اسم يكون عاقبة الدار. والتذكير لوقوع الفصل؛ ولأنه تأنيث مجازي، وقرأ الباقون: {تكون} بالفوقية، وهي أوضح من القراءة الأولى، والمراد بالدار هنا: الدنيا، وعاقبتها: هي الدار الآخرة، والمعنى: لمن تكون له العاقبة المحمودة، والضمير في: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} للشأن أي: إن الشأن أنه لا يفلح الظالمون أي لا يفوزون بمطلب خير، ويجوز أن يكون المراد بعاقبة الدار خاتمة الخير. وقال فرعون: {ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِي}: تمسك اللعين بمجرّد الدعوى الباطلة مغالطة لقومه منه، وقد كان يعلم أنه ربه الله عزّ وجلّ، ثم رجع إلى تكبره، وتجبره، وإيهام قومه بكمال اقتداره فقال: {فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين} أي: اطبخ لي الطين حتى يصير آجرًّا {فاجعل لّي صَرْحاً} أي اجعل لي من هذا الطين الذي توقد عليه حتى يصير آجرًّا صرحاً، أي قصراً عالياً {لَّعَلّي أَطَّلِعُ إلى إله موسى} أي أصعد إليه {وَإِنّى لأظُنُّهُ مِنَ الكاذبين} والطلوع والإطلاع واحد، يقال: طلع الجبل واطلع {واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} المراد بالأرض: أرض مصر، والاستكبار: التعظم بغير استحقاق، بل بالعدوان؛ لأنه لم يكن له حجة يدفع بها ما جاء به موسى، ولا شبهة ينصبها في مقابلة ما أظهره من المعجزات {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} أي فرعون، وجنوده، والمراد بالرجوع البعث والمعاد. قرأ نافع، وشيبة وابن محيصن وحميد ويعقوب وحمزة والكسائي: «لاَ يَرْجِعُونَ» بفتح الياء وكسر الجيم مبنياً للفاعل. وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الجيم مبنياً للمفعول، واختار القراءة الأولى أبو حاتم، واختار القراءة الثانية أبو عبيد. {فأخذناه وَجُنُودَهُ} بعد أن عتوا في الكفر، وجاوزوا الحدّ فيه {فنبذناهم فِي اليم} أي طرحناهم في البحر، وقد تقدّم بيان الكلام في هذا {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين} الخطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أي انظر يا محمد كيف كان آخر أمر الكافرين حين صاروا إلى الهلاك؟ {وجعلناهم أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار} أي صيرناهم رؤساء متبوعين مطاعين في الكافرين، فكأنهم بإصرارهم على الكفر والتمادي فيه يدعون أتباعهم إلى النار؛ لأنهم اقتدوا وسلكوا طريقتهم تقليداً لهم. وقيل: المعنى: إنه يأتمّ بهم أي: يعتبر بهم من جاء بعدهم، ويتعظ بما أصيبوا به، والأول أولى {وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ} أي لا ينصرهم أحد ولا يمنعهم مانع من عذاب الله {وأتبعناهم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً} أي: طرداً وإبعاداً، أو أمرنا العباد بلعنهم، فكل من ذكرهم لعنهم، والأوّل أولى. {وَيَوْمَ القيامة هُمْ مّنَ المقبوحين} المقبوح: المطرود المبعد. وقال أبو عبيدة وابن كيسان: معناه: من المهلكين الممقوتين. وقال أبو زيد: قبح الله فلاناً قبحاً وقبوحاً أبعده من كل خير. قال أبو عمرو: قبحت وجهه بالتخفيف بمعنى قبحت بالتشديد، ومثله قول الشاعر: ألا قبح الله البراجم كلها *** وقبح يربوعاً وقبح دارما وقيل: المقبوح المشوّه الخلقة، والعامل في يوم محذوف يفسره من المقبوحين، والتقدير: وقبحوا يوم القيامة. أو هو معطوف على موضع في هذه الدنيا، أي وأتبعناهم لعنة يوم القيامة، أو معطوف على لعنة على حذف مضاف، أي ولعنة يوم القيامة. {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب} يعني: التوراة {مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الأولى} أي: قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم. وقيل: من بعد ما أهلكنا فرعون وقومه وخسفنا بقارون. وانتصاب {بَصَائِرَ للنَّاسِ} على أنه مفعول له أو حال، أي آتيناه الكتاب لأجل يتبصر به الناس، أو حال كونه بصائر للناس يبصرون به الحق ويهتدون إليه وينقذون أنفسهم به من الضلالة بالاهتداء به. {وَرَحْمَةً} لهم من الله رحمهم بها {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} هذه النعم، فيشكرون الله، ويؤمنون به، ويجيبون داعيه إلى ما فيه خير لهم. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: {رِدْءاً يُصَدّقُنِي} كي يصدقني. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: لما قال فرعون {ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِي} قال جبريل: يا ربّ طغى عبدك فائذن لي في هلكه، فقال: يا جبريل هو عبدي، ولن يسبقني، له أجل قد أجلته حتى يجيء ذلك الأجل، فلما قال: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} قال الله: يا جبريل سبقت دعوتك في عبدي وقد جاء أوان هلاكه. وأخرج ابن مردويه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلمتان قالهما فرعون: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِي} وقوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24]» قال: «كان بينهما أربعون عاماً {فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى}» [النازعات: 25]. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: بلغني أن فرعون أوّل من طبخ الآجرّ. وأخرجه ابن المنذر عن ابن جريج. وأخرج البزار وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أهلك الله قوماً ولا قرناً ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء منذ أنزل التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخت قردة، ألم تر إلى قوله: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الأولى}» وأخرجه البزار وابن جرير وابن أبي حاتم من وجه آخر عن أبي سعيد موقوفاً.
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)} قوله: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي} هذا شروع في بيان إنزال القرآن، أي وما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربيّ، فيكون من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، واختاره الزجاج. وقال الكلبي: بجانب الوادي الغربيّ، أي حيث ناجى موسى ربه {إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر} أي عهدنا إليه وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وقومه {وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين} لذلك حتى تقف على حقيقته، وتحكيه من جهة نفسك. وإذا تقرّر أن الوقوف على تفاصيل تلك الأحوال لا يمكن أن يكون بالحضور عندها من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والمشاهدة لها منه، وانتفى بالأدلة الصحيحة أنه لم يتلقّ ذلك من غيره من البشر، ولا علمه معلم منهم كما قدّمنا تقريره، تبين أنه من عند الله سبحانه بوحي منه إلى رسوله بواسطة الملك النازل بذلك، فهذا الكلام هو على طريقة: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقلامهم أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] وقيل: معنى {إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر}: إذ كلفناه وألزمناه. وقيل: أخبرناه أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم، ولا يستلزم نفي كونه بجانب الغربي نفي كونه من الشاهدين، لأنه يجوز أن يحضر ولا يشهد. قيل: المراد بالشاهدين: السبعون الذين اختارهم موسى للميقات. {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً} أي خلقنا أمماً بين زمانك يا محمد وزمان موسى {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر} طالت عليهم المهلة وتمادى عليهم الأمد فتغيرت الشرائع والأحكام وتنوسيت الأديان فتركوا أمر الله، ونسوا عهده، ومثله قوله سبحانه: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16]، وقد استدلّ بهذا الكلام على أن الله سبحانه قد عهد إلى موسى عهوداً في محمد صلى الله عليه وسلم وفي الإيمان به فلما طال عليهم العمر، ومضت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود، وتركوا الوفاء بها {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ} أي مقيماً بينهم كما أقام موسى حتى تقرأ على أهل مكة خبرهم وتقصّ عليهم من جهة نفسك. يقال: ثوى يثوي ثواء وثويا فهو ثاوٍ. قال ذو الرمة: لقد كان في حول ثواء ثويته *** تقضي لبانات ويسأم سائم وقال العجاج: فبات حيث يدخل الثوّى *** يعني: الضيف المقيم. وقال آخر: طال الثواء على رسوم المنزل *** {تَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياتنا} أي تقرأ على أهل مدين آياتنا، وتتعلم منهم، وقيل: تذكرهم بالوعد والوعيد، والجملة في محل نصب على الحال أو خبر ثان، ويجوز أن تكون هذه الجملة هي الخبر، و{ثاوياً} حال. وجعلها الفراء مستأنفة كأنه قيل: وها أنت تتلو على أمتك {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أي أرسلناك إلى أهل مكة، وأنزلنا عليك هذه الأخبار، ولولا ذلك لما علمتها. قال الزجاج: المعنى: أنك لم تشاهد قصص الأنبياء، ولا تليت عليك، ولكنا أوحيناها إليك وقصصناها عليك. {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا} أي وما كنت يا محمد بجانب الجبل المسمى بالطور إذ نادينا موسى لما أتى إلى الميقات مع السبعين. وقيل: المنادى هو أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قال وهب: وذلك أن موسى لما ذكر الله له فضل محمد، وأمته قال: يا رب أرنيهم، فقال الله: إنك لن تدركهم، وإن شئت ناديتهم فأسمعتك صوتهم، قال: بلى يا ربّ، فقال الله: يا أمة محمد، فأجابوا من أصلاب آبائهم، فيكون معنى الآية على هذا: ما كنت يا محمد بجانب الطور إذ كلمنا موسى، فنادينا أمتك، وسيأتي ما يدلّ على هذا ويقوّيه ويرجحه في آخر البحث إن شاء الله {ولكن رَّحْمَةً مّن رَّبِكَ} أي ولكن فعلنا ذلك رحمة منا بكم، وقيل: ولكن أرسلنا بالقرآن رحمة لكم، وقيل: علمناك. وقيل: عرفناك. قال الأخفش: هو منصوب يعني: رحمة، على المصدر، أي ولكن رحمناك رحمة. وقال الزجاج: هو مفعول من أجله، أي فعلنا ذلك بك لأجل الرحمة. قال النحاس: أي لم تشهد قصص الأنبياء ولا تليت عليك، ولكن بعثناك وأوحيناها إليك للرحمة. وقال الكسائي: هو خبر لكان مقدّرة، أي ولكن كان ذلك رحمة، وقرأ عيسى بن عمر، وأبو حيوة: «رحمة» بالرفع على تقدير: ولكن أنت رحمة. وقال الكسائي: الرفع على أنها اسم كان المقدّرة، وهو بعيد إلاّ على تقدير أنها تامة، واللام في: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ} متعلق بالفعل المقدّر على الاختلاف في تقديره. والقوم: هم أهل مكة، فإنه لم يأتهم نذير ينذرهم قبله صلى الله عليه وسلم، وجملة {ما أتاهم} إلخ، صفة ل {قوماً}، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي يتعظون بإنذارك. {وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} لولا هذه هي الامتناعية، وأن وما في حيزها في موضع رفع بالابتداء وجوابها محذوف. قال الزجاج: وتقديره: ما أرسلنا إليهم رسلاً: يعني: أن الحامل على إرسال الرسل هو إزاحة عللهم، فهو كقوله سبحانه: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165] وقدّره ابن عطية: لعاجلناهم بالعقوبة، ووافقه على هذا التقدير الواحدي فقال: والمعنى: لولا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة بكفرهم، وقوله: {فَيَقُولُواْ} عطف على تصيبهم، ومن جملة ما هو في حيز لولا، أي فيقولوا: {رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} ولولا هذه الثانية هي التحضيضية أي: هلا أرسلت إلينا رسولاً من عندك، وجوابها هو: {فَنَتَّبِعَ ءاياتك} وهو منصوب بإضمار أن لكونه جواباً للتحضيض، والمراد بالآيات: الآيات التنزيلية الظاهرة الواضحة، وإنما عطف القول على تصيبهم؛ لكونه هو السبب للإرسال، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها جعلت العقوبة كأنها هي السبب لإرسال الرسل بواسطة القول {وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} بهذه الآيات، ومعنى الآية: أنا لو عذبناهم لقالوا: طال العهد بالرسل، ولم يرسل الله إلينا رسولاً، ويظنون أن ذلك عذر لهم ولا عذر لهم بعد أن بلغتهم أخبار الرسل، ولكنا أكملنا الحجة وأزحنا العلة وأتممنا البيان بإرسالك يا محمد إليهم. {فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ موسى} أي فلما جاء أهل مكة الحقّ من عند الله، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل عليه من القرآن قالوا تعنتاً منهم وجدالاً بالباطل: هلا أوتي هذا الرسول مثل ما أوتي موسى من الآيات التي من جملتها التوراة المنزلة عليه جملة واحدة؟ فأجاب الله عليهم بقوله: {أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ} أي من قبل هذا القول، أو من قبل ظهور محمد؛ والمعنى: أنهم قد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمد، وجملة: {قَالُواْ سِاحْرَانِ تظاهرا} مستأنفة مسوقة لتقرير كفرهم، وعنادهم، والمراد بقولهم: {ساحران} موسى ومحمد، والتظاهر: التعاون، أي تعاونا على السحر، والضمير في قوله: {أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ} لكفار قريش، وقيل: هو لليهود، والأوّل أولى، فإن اليهود لا يصفون موسى بالسحر إنما يصفه بذلك كفار قريش وأمثالهم إلاّ أن يراد من أنكر نبوّة موسى كفرعون وقومه، فإنهم وصفوا موسى وهارون بالسحر، ولكنهم ليسوا من اليهود ويمكن أن يكون الضمير لمن كفر بموسى ومن كفر بمحمد، فإن الذين كفروا بموسى وصفوه بالسحر، والذين كفروا بمحمد وصفوه أيضاً بالسحر. وقيل: المعنى: أولم يكفر اليهود في عصر محمد بما أوتي موسى من قبله بالبشارة بعيسى ومحمد. قرأ الجمهور: {ساحران} وقرأ الكوفيون: {سحران} يعنون التوراة والقرآن. وقيل: الإنجيل والقرآن. قال بالأوّل الفراء، وقال بالثاني أبو زيد. وقيل: إن الضمير في: {أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ} لليهود، وأنهم عنوا بقولهم: {ساحران} عيسى ومحمداً. {وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلّ كافرون} أي بكلّ من موسى ومحمد، أو من موسى وهارون، أو من موسى وعيسى على اختلاف الأقوال، وهذا على قراءة الجمهور، وأما على القراءة الثانية فالمراد: التوراة والقرآن أو الإنجيل والقرآن. وفي هذه الجملة تقرير لما تقدّمها من وصف النبيين بالسحر، أو من وصف الكتابين به وتأكيد لذلك. ثم أمر الله سبحانه نبيه أن يقول لهم قولاً يظهر به عجزهم، فقال: {قُلْ فَأْتُواْ بكتاب مّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ} أي قل لهم يا محمد: فأتوا بكتاب هو أهدى من التوراة والقرآن، و{أتبعه} جواب الأمر، وقد جزمه جمهور القراء لذلك. وقرأ زيد ابن عليّ برفع: «أَتَّبِعْهُ» على الاستئناف، أي فأنا أتبعه. قال الفراء: إنه على هذه القراءة صفة للكتاب، وفي هذا الكلام تهكم به. وفيه أيضاً دليل على أن قراءة الكوفيين أقوى من قراءة الجمهور؛ لأنه رجع الكلام إلى الكتابين لا إلى الرسولين، ومعنى {إِن كُنتُمْ صادقين}: إن كنتم فيما وصفتم به الرسولين أو الكتابين صادقين. {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ} أي لم يفعلوا ما كلفتهم به من الإتيان بكتاب هو أهدى من الكتابين، وجواب الشرط: {فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ} أي آراءهم الزائغة واستحساناتهم الزائفة بلا حجة، ولا برهان، وقيل: المعنى: فإن لم يستجيبوا لك بالإيمان بما جئت به، وتعدية {يستجيبوا} باللام هو أحد الجائزين {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ الله} أي لا أحد أضلّ منه، بل هو الفرد الكامل في الضلال {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} لأنفسهم بالكفر وتكذيب الأنبياء والإعراض عن آيات الله. {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول} قرأ الجمهور: {وصلنا} بتشديد الصاد، وقرأ الحسن بتخفيفها، ومعنى الآية: أتبعنا بعضه بعضاً وبعثنا رسولاً بعد رسول. وقال أبو عبيدة والأخفش: معناه: أتممنا. وقال ابن عيينة، والسديّ: بينا. وقال ابن زيد: وصلنا لهم خير الدنيا بخير الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا، والأولى أولى، وهو مأخوذ من وصل الحبال بعضها ببعض، ومنه قول الشاعر: قل لبني مروان ما بال ذمتي *** بحبل ضعيف لا تزال توصل وقال امرؤ القيس: يقلب كفيه بخيط موصل *** والضمير في: {لهم} عائد إلى قريش. وقيل: إلى اليهود. وقيل: للجميع {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فيكون التذكر سبباً لإيمانهم مخافة أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم. {الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ} أي من قبل القرآن، والموصول مبتدأ، وخبره: {هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} أخبر سبحانه أن طائفة من بني إسرائيل آمنوا بالقرآن كعبد الله بن سلام وسائر من أسلم من أهل الكتاب، وقيل: الضمير في {مِن قَبْلِهِ} يرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم، والأوّل أولى. والضمير في {به} راجع إلى القرآن على القول الأوّل، وإلى محمد على القول الثاني. {وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ} أي وإذا يتلى القرآن عليهم قالوا: صدّقنا به {إِنَّهُ الحق مِن رَّبّنَا} أي الحق الذي نعرفه المنزل من ربنا {إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} أي مخلصين لله بالتوحيد، أو مؤمنين بمحمد وبما جاء به لما نعلمه من ذكره في التوراة والإنجيل من التبشير به، وأنه سيبعث آخر الزمان وينزل عليه القرآن، والإشارة بقوله: {أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} إلى الموصوفين بتلك الصفات، والباء في {بِمَا صَبَرُواْ} للسببية أي بسبب صبرهم وثباتهم على الإيمان بالكتاب الأول والكتاب الآخر، وبالنبيّ الأوّل والنبيّ الآخر {وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة} الدرء: الدفع، أي يدفعون بالاحتمال والكلام الحسن ما يلاقونه من الأذى. وقيل: يدفعون بالطاعة المعصية. وقيل: بالتوبة، والاستغفار، من الذنوب. وقيل: بشهادة أن لا إله إلاّ الله الشرك {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} أي ينفقون أموالهم في الطاعات وفيما أمر به الشرع. ثم مدحهم سبحانه بإعراضهم عن اللغو، فقال: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} تكرّماً وتنزّهاً وتأدّباً بآداب الشرع، ومثله قوله سبحانه: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً} [الفرقان: 72] واللغو هنا هو ما يسمعونه من المشركين من الشتم لهم ولدينهم والاستهزاء بهم {وَقَالُواْ لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم} لا يلحقنا من ضرر كفركم شيء، ولا يلحقكم من نفع إيماننا شيء {سلام عَلَيْكُمُ} ليس المراد بهذا السلام سلام التحية؛ ولكن المراد به: سلام المتاركة؛ ومعناه: أمنة لكم منا وسلامة، لا نجاريكم ولا نجاوبكم فيما أنتم فيه. قال الزجاج: وهذا قبل الأمر بالقتال {لاَ نَبْتَغِي الجاهلين} أي لا نطلب صحبتهم. وقال مقاتل: لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه. وقال الكلبي: لا نحبّ دينكم الذي أنتم عليه. {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} من الناس، وليس ذلك إليك {ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَاء} هدايته {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} أي القابلين للهداية المستعدّين لها، وهذه الآية نزلت في أبي طالب كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، وقد تقدّم ذلك في براءة. قال الزجاج: أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي طالب، وقد تقرّر في الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فيدخل في ذلك أبو طالب دخولاً أولياً. {وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} أي قال مشركو قريش، ومن تابعهم: إن ندخل في دينك يا محمد نتخطف من أرضنا، أي يتخطفنا العرب من أرضنا يعنون مكة ولا طاقة لنا بهم، وهذا من جملة أعذارهم الباطلة، وتعللاتهم العاطلة، والتخطف في الأصل: هو الانتزاع بسرعة. قرأ الجمهور: {نتخطف} بالجزم جواباً للشرط، وقرأ المنقري بالرفع على الاستئناف. ثم ردّ الله ذلك عليهم ردًّا مصدّراً باستفهام التوبيخ والتقريع فقال: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً} أي ألم نجعل لهم حرماً ذا أمن؟ قال أبو البقاء: عدّاه بنفسه؛ لأنه بمعنى جعل كما صرّح بذلك في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً} [العنكبوت: 67]، ثم وصف هذا الحرم بقوله: {يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَئ} أي تجمع إليه الثمرات على اختلاف أنواعها من الأراضي المختلفة وتحمل إليه. قرأ الجمهور: {يجبى} بالتحتية اعتباراً بتذكير كل شيء ووجود الحائل بين الفعل وبين ثمرات، وأيضاً ليس تأنيث ثمرات بحقيقيّ، واختار قراءة الجمهور أبو عبيد لما ذكرنا، وقرأ نافع بالفوقية اعتباراً بثمرات. وقرأ الجمهور أيضاً: {ثمرات} بفتحتين، وقرأ {أبان} بضمتين، جمع ثمر بضمتين، وقرئ بفتح الثاء وسكون الميم {رّزْقاً مّن لَّدُنَّا} منتصب على المصدرية؛ لأن معنى {يجبى}: نرزقهم، ويجوز أن ينتصب على أنه مفعول له لفعل محذوف، أي نسوقه إليهم رزقاً من لدنا، ويجوز أن ينتصب على الحال، أي رازقين {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} لفرط جهلهم ومزيد غفلتهم وعدم تفكرهم في أمر معادهم ورشادهم؛ لكونهم ممن طبع الله على قلبه، وجعل على بصره غشاوة. وقد أخرج الفريابي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم والبيهقي معاً في الدلائل عن أبي هريرة في قوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا} قال: نودوا: يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني، واستجبت لكم قبل أن تدعوني. وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعاً. وأخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن عساكر عنه من وجه آخر بنحوه. وأخرج ابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل، وأبو نصر السجزي في الإبانة، والديلمي عن عمرو بن عبسة قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا}: ما كان النداء، وما كانت الرحمة؟ قال: «كتبه الله قبل أن يخلق خلقه بألفي عام، ثم وضعه على عرشه، ثم نادى: يا أمة محمد، سبقت رحمتي غضبي، أعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني، فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبدي ورسولي صادقاً، أدخلته الجنة» وأخرج الختلي في الديباج عن سهل بن سعد الساعدي مرفوعاً مثله. وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن حذيفة في قوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا} مرفوعاً، قال: «نودوا: يا أمة محمد ما دعوتمونا إذ استجبنا لكم، ولا سألتمونا إذ أعطيناكم» وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً: «إن الله نادى: يا أمة محمد أجيبوا ربكم»، قال: «فأجابوا وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم إلى يوم القيامة فقالوا: لبيك، أنت ربنا حقاً ونحن عبيدك حقاً، قال: صدقتم أنا ربكم وأنتم عبيدي حقاً، قد عفوت عنكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني، فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلاّ الله دخل الجنة» وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الهالك في الفترة يقول: ربّ لم يأتني كتاب ولا رسول»، ثم قرأ هذه الآية {رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} الآية. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {قَالُواْ سِحْرَانِ تظاهرا} إلخ. قال: هم أهل الكتاب {إِنَّا بِكُلّ كافرون} يعني: بالكتابين: التوراة والفرقان. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو القاسم البغوي والباوردي وابن قانع الثلاثة في معاجم الصحابة، والطبراني وابن مردويه بسندٍ جيد عن رفاعة القرظي قال: نزلت: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} إلى قوله: {أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} في عشرة رهط أنا أحدهم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس {الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} قال: يعني من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين: رجل من أهل الكتاب آمن بالكتاب الأوّل والآخر، ورجل كانت له أمة، فأدّبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوّجها، وعبد مملوك أحسن عبادة ربه، ونصح لسيده» وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث المسيب ومسلم وغيره من حديث أبي هريرة أن قوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} نزلت في أبي طالب لما امتنع من الإسلام. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس: أن ناساً من قريش قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن نتبعك يتخطفنا الناس، فنزلت: {وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ} الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه {يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَئ} قال: ثمرات الأرض.
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)} قوله {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ} أي من أهل قرية كانوا في خفض عيش ودعة ورخاء، فوقع منهم البطر، فأهلكوا. قال الزجاج: البطر الطغيان عند النعمة. قال عطاء: عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام. قال الزجاج، والمازني: معنى {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا}: بطرت في معيشتها، فلما حذفت «في» تعدّى الفعل كقوله: {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155]. وقال الفراء: هو منصوب على التفسير كما تقول: أبطرك مالك وبطرته، ونظيره عنده قوله تعالى: {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] ونصب المعارف على التمييز غير جائز عند البصريين؛ لأن معنى التفسير: أن تكون النكرة دالة على الجنس. وقيل: إن معيشتها منصوبة ببطرت على تضمينه معنى: جهلت {فَتِلْكَ مساكنهم لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً} أي لم يسكنها أحد بعدهم إلاّ زمناً قليلاً، كالذي يمرّ بها مسافراً فإنه يلبث فيها يوماً أو بعض يوم، أو لم يبق من يسكنها فيها إلاّ أياماً قليلة لشؤم ما وقع فيها من معاصيهم. وقيل: إن الاستثناء يرجع إلى المساكن، أي لم تسكن بعد هلاك أهلها إلاّ قليلاً من المساكن، وأكثرها خراب، كذا قال الفراء، وهو قول ضعيف {وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين} منهم لأنهم لم يتركوا وارثاً يرث منازلهم وأموالهم، ومحلّ جملة: {لَمْ تُسْكَن} الرفع على أنها خبر ثان لاسم الإشارة، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى حتى يَبْعَثَ فِي أُمّهَا رَسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءاياتنا} أي وما صحّ، ولا استقام أن يكون الله مهلك القرى الكافرة، أي الكافر أهلها حتى يبعث في أمها رسولاً ينذرهم، ويتلوا عليهم آيات الله الناطقة بما أوجبه الله عليهم، وما أعدّه من الثواب للمطيع والعقاب للعاصي، ومعنى {أُمّهَا}: أكبرها وأعظمها، وخص الأعظم منها بالبعثة إليها؛ لأن فيها أشراف القوم، وأهل الفهم والرأي، وفيها الملوك والأكابر، فصارت بهذا الاعتبار كالأم لما حولها من القرى. وقال الحسن: أمّ القرى أوّلها. وقيل: المراد بأمّ القرى هنا: مكة، كما في قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96] الآية، وقد تقدّم بيان ما تضمنته هذه الآية في آخر سورة يوسف، وجملة: {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءاياتنا} في محل نصب على الحال، أي تالياً عليهم ومخبراً لهم أن العذاب سينزل بهم إن لم يؤمنوا {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظالمون} هذه الجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، والاستثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال، أي وما كنا مهلكين لأهل القرى بعد أن نبعث إلى أمها رسولاً يدعوهم إلى الحق إلاّ حال كونهم ظالمين قد استحقوا الإهلاك لإصرارهم على الكفر بعد الإعذار إليهم، وتأكيد الحجة عليهم كما في قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]. ثم قال سبحانه: {وَمَا أُوتِيتُم مّن شَيْء فمتاع الحياة الدنيا وَزِينَتُهَا} الخطاب لكفار مكة، أي وما أعطيتم من شيء من الأشياء فهو متاع الحياة الدنيا تتمتعون به مدّة حياتكم أو بعض حياتكم ثم تزولون عنه، أو يزول عنكم، وعلى كل حال فذلك إلى فناء، وانقضاء {وَمَا عِندَ الله} من ثوابه وجزائه {خَيْرٌ} من ذلك الزائل الفاني؛ لأنه لذّة خالصة عن شوب الكدر {وأبقى} لأنه يدوم أبداً، وهذا ينقضي بسرعة {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أن الباقي أفضل من الفاني، وما فيه لذّة خالصة غير مشوبة أفضل من اللذات المشوبة بالكدر المنغصة بعوارض البدن والقلب، وقرئ بنصب: " متاع " على المصدرية، أي: فتمتعون متاع الحياة، قرأ أبو عمرو: " يعقلون " بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب وقراءتهم أرجح لقوله: {وَمَا أُوتِيتُم}. {أَفَمَن وعدناه وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ} أي وعدناه بالجنة، وما فيها من النعم التي لا تحصى فهو لاقيه، أي مدركه لا محالة فإن الله لا يخلف الميعاد {كَمَن مَّتَّعْنَاهُ متاع الحياة الدنيا} فأعطي منها بعض ما أراد مع سرعة زواله، وتنغيصه {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين} هذا معطوف على قوله: {مَّتَّعْنَاهُ} داخل معه في حيز الصلة مؤكد لإنكار التشابه، ومقرّر له، والمعنى: ثم هذا الذي متعناه هو يوم القيامة من المحضرين النار، وتخصيص المحضرين بالذين أحضروا للعذاب اقتضاه المقام، والاستفهام للإنكار، أي ليس حالهما سواء، فإن الموعود بالجنة لا بدّ أن يظفر بما وعد به مع أنه لا يفوته نصيبه من الدنيا، وهذا حال المؤمن. وأما حال الكافر فإنه لم يكن معه إلاّ مجرّد التمتيع بشيء من الدنيا يستوي فيه هو والمؤمن، وينال كل واحد منهما حظه منه، وهو صائر إلى النار، فهل يستويان؟ قرأ الجمهور: {ثم هو} بضم الهاء، وقرأ الكسائي وقالون بسكون الهاء إجراء ل {ثم} مجرى الواو، والفاء. وانتصاب «يوم» في قوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} بالعطف على يوم القيامة، أو بإضمار اذكر، أي يوم ينادي الله سبحانه هؤلاء المشركين {فَيَقُولُ} لهم: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أنهم ينصرونكم ويشفعون لكم، ومفعولا يزعمون محذوفان، أي تزعمونهم شركائي لدلالة الكلام عليهما {قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} أي حقت عليهم كلمة العذاب، وهم رؤساء الضلال الذين اتخذوهم أرباباً من دون الله، كذا قال الكلبي. وقال قتادة: هم الشياطين {رَبَّنَا هَؤُلاء الذين أَغْوَيْنَا} أي دعوناهم إلى الغواية يعنون الأتباع {أغويناهم كَمَا غَوَيْنَا} أي أضللناهم كما ضللنا {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} منهم، والمعنى: أن رؤساء الضلال، أو الشياطين تبرّؤوا ممن أطاعهم. قال الزجاج: برئ بعضهم من بعض، وصاروا أعداء كما قال الله تعالى: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الزخرف: 67]، و{هؤلاء} مبتدأ، {والذين أغوينا} صفته، والعائد محذوف، أي أغويناهم، والخبر: {أغويناهم}، و{كما غوينا} نعت مصدر محذوف. وقيل: إن خبر هؤلاء هو الذين أغوينا، وأما {أغويناهم كما غوينا} فكلام مستأنف لتقرير ما قبله، ورجح هذا أبو عليّ الفارسي، واعترض الوجه الأوّل، وردّ اعتراضه أبو البقاء. {مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} وإنما كانوا يعبدون أهواءهم. وقيل: إن «ما» في {ما كانوا} مصدرية، أي تبرأنا إليك من عبادتهم إيانا، والأول أولى. {وَقِيلَ ادعوا شُرَكَاءكُمْ} أي قيل للكفار من بني آدم هذا القول، والمعنى: استغيثوا بآلهتكم التي كنتم تعبدونهم من دون الله في الدنيا لينصروكم ويدفعوا عنكم {فَدَعَوْهُمْ} عند ذلك {فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} ولا نفعوهم بوجه من وجوه النفع {وَرَأَوُاْ العذاب} أي التابع والمتبوع قد غشيهم {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ} قال الزجاج: جواب لو محذوف، والمعنى: لو أنهم كانوا يهتدون لأنجاهم ذلك، ولم يروا العذاب. وقيل: المعنى: لو أنهم كانوا يهتدون ما دعوهم: وقيل: المعنى: لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا لعلموا أن العذاب حق. وقيل: المعنى: لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب. وقيل: قد آن لهم أن يهتدوا لو كانوا يهتدون. وقيل: غير ذلك. والأوّل أولى، ويوم في قوله: {وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المرسلين} معطوف على ما قبله، أي ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين لما بلغوكم رسالاتي. {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنباء يَوْمَئِذٍ} أي خفيت عليهم الحجج حتى صاروا كالعمي الذين لا يهتدون، والأصل فعموا عن الأنباء، ولكنه عكس الكلام للمبالغة، والأنباء الأخبار، وإنما سمى حججهم أخباراً؛ لأنها لم تكن من الحجة في شيء، وإنما هي أقاصيص، وحكايات {فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ} لا يسأل بعضهم بعضاً، ولا ينطقون بحجة ولا يدرون بما يجيبون، لأن الله قد أعذر إليهم في الدنيا فلا يكون لهم عذر، ولا حجة يوم القيامة. قرأ الجمهور: (عميت) بفتح العين، وتخفيف الميم. وقرأ الأعمش وجناح بن حبيش بضم العين وتشديد الميم. {فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صالحا فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين} أن تاب من الشرك وصدّق بما جاء به الرسل، وأدّى الفرائض واجتنب المعاصي فعسى أن يكون من المفلحين، أي الفائزين بمطالبهم من سعادة الدارين، وعسى وإن كانت في الأصل للرجاء فهو من الله واجب على ما هو عادة الكرام. وقيل: إن الترجي هو من التائب المذكور لا من جهة الله سبحانه. {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء} أي يخلقه {وَيَخْتَارُ} ما يشاء أن يختاره. {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 23] وهذا متصل بذكر الشركاء الذين عبدوهم، واختاروهم أي الاختيار إلى الله {مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} أي التخير، وقيل: المراد من الآية: أنه ليس لأحد من خلق الله أن يختار، بل الاختيار هو إلى الله عزّ وجلّ. وقيل: إن هذه الآية جواب عن قولهم: {لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] وقيل: هذه الآية جواب عن اليهود حيث قالوا: لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل لآمنا به. قال الزجاج: الوقف على {ويختار} تام على أن " ما " نافية. قال: ويجوز أن تكون «ما» في موضع نصب ب {يختار}، والمعنى: ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة. والصحيح الأوّل لإجماعهم على الوقف. وقال ابن جرير: إن تقدير الآية: ويختار لولايته الخيرة من خلقه، وهذا في غاية من الضعف. وجوّز ابن عطية أن تكون «كان» تامة، ويكون لهم الخيرة جملة مستأنفة. وهذا أيضاً بعيد جداً. وقيل: إن «ما» مصدرية، أي: يختار اختيارهم، والمصدر واقع موقع المفعول به، أي ويختار مختارهم، وهذا كالتفسير لكلام ابن جرير، والراجح أوّل هذه التفاسير، ومثله قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة} [الأحزاب: 36] والخيرة: التخير كالطيرة فإنها التطير، اسمان يستعملان استعمال المصدر، ثم نزّه سبحانه نفسه، فقال: {سبحان الله} أي تنزّه تنزّهاً خاصاً به من غير أن ينازعه منازع، ويشاركه مشارك {وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي عن الذين يجعلونهم شركاء له، أو عن إشراكهم. {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} أي تخفيه من الشرك، أو من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من جميع ما يخفونه مما يخالف الحق {وَمَا يُعْلِنُونَ} أي يظهرونه من ذلك. قرأ الجمهور: {تكن} بضم التاء الفوقية وكسر الكاف. وقرأ ابن محيصن وحميد بفتح الفوقية وضم الكاف. ثم تمدح سبحانه وتعالى بالوحدانية والتفرّد باستحقاق الحمد، فقال: {وَهُوَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الحمد فِي الأولى} أي الدنيا {والآخرة} أي الدار الآخرة {وَلَهُ الحكم} يقضي بين عباده بما شاء من غير مشارك {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بالبعث، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، لا ترجعون إلى غيره. وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظالمون} قال: قال الله: لم نهلك قرية بإيمان، ولكنه أهلك القرى بظلم إذا ظلم أهلها، ولو كانت مكة آمنت لم يهلكوا مع من هلك، ولكنهم كذبوا، وظلموا فبذلك هلكوا. وأخرج مسلم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله عزّ وجلّ: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني " الحديث بطوله. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن عبد بن عبيد بن عمير قال: " يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا، وأعطش ما كانوا، وأعرى ما كانوا، فمن أطعم لله عزّ وجلّ أطعمه الله، ومن كسا لله عزّ وجلّ كساه الله، ومن سقى لله عزّ وجلّ سقاه الله، ومن كان في رضا الله كان الله على رضاه " وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنباء} قال: الحجج {فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ} قال: بالأنساب. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح تعليم الاستخارة وكيفية صلاتها ودعائها، فلا نطول بذكره.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)} قوله: {قُلْ أَرَءيْتُمْ} أي أخبروني {إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَدا} السرمد: الدائم المستمرّ، من السرد، وهو المتابعة فالميم زائدة، ومنه قول طرفة: لعمرك ما أمري عليك بغمة *** نهاري ولا ليلي عليك بسرمد وقيل: إن ميمه أصلية، ووزنه فعلل لا مفعل، وهو الظاهر، بيّن لهم سبحانه أنه مهّد لهم أسباب المعيشة ليقوموا بشكر النعمة؛ فإنه لو كان الدهر الذي يعيشون فيه ليلاً دائماً إلى يوم القيامة لم يتمكنوا من الحركة فيه، وطلب ما لا بدّ لهم منه مما يقوم به العيش من المطاعم والمشارب والملابس. ثم امتنّ عليهم فقال {مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء} أي هل لكم إلاه من الآلهة التي تعبدونها يقدر على أن يرفع هذه الظلمة الدائمة عنكم بضياء؟ أي بنور تطلبون فيه المعيشة وتبصرون فيه ما تحتاجون إليه، وتصلح به ثماركم وتنمو عنده زرائعكم وتعيش فيه دوابكم {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} هذا الكلام سماع فهم وقبول، وتدبر وتفكر. ثم لما فرغ من الامتنان عليهم بوجود النهار امتنّ عليهم بوجود الليل فقال: {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة} أي جعل جميع الدهر الذي تعيشون فيه نهاراً إلى يوم القيامة {مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} أي تستقرّون فيه من النصب والتعب، وتستريحون مما تزاولون من طلب المعاش والكسب {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} هذه المنفعة العظيمة إبصار متعظ متيقظ؛ حتى تنزجروا عما أنتم فيه من عبادة غير الله، وإذا أقرّوا بأنه لا يقدر على ذلك إلاّ الله عزّ وجلّ فقد لزمتهم الحجة، وبطل ما يتمسكون به من الشبه الساقطة، وإنما قرن سبحانه بالضياء قوله: {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من درك منافعه ووصف فوائده، وقرن بالليل قوله: {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} لأن البصر يدرك ما لا يدركه السمع من ذلك {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} أي في الليل {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي في النهار بالسعي في المكاسب {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي ولكي تشكروا نعمة الله عليكم، وهذه الآية من باب اللف والنشر، كما في قول امرئ القيس: كأنّ قلوب الطير رطباً ويابسا *** لدى وكرها العناب والحشف البالي واعلم أنه وإن كان السكون في النهار ممكناً، وطلب الرزق في الليل ممكناً، وذلك عند طلوع القمر على الأرض، أو عند الاستضاءة بشيء بما له نور كالسراج، لكن ذلك قليل نادر مخالف لما يألفه العباد فلا اعتبار به. {وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} كرّر سبحانه هذا لاختلاف الحالتين؛ لأنهم ينادون مرة فيدعون الأصنام، وينادون أخرى فيسكتون، وفي هذا التكرير أيضاً تقريع بعد تقريع وتوبيخ بعد توبيخ، وقوله: {وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيداً} عطف على ينادي، وجاء بصيغة الماضي للدلالة على التحقق، والمعنى: وأخرجنا من كل أمة من الأمم شهيداً يشهد عليهم. قال مجاهد: هم الأنبياء، وقيل: عدول كلّ أمة، والأوّل أولى. ومثله قوله سبحانه: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً} [النساء: 41] ثم بين سبحانه ما يقوله لكل أمة من هذه الأمم بقوله: {فَقُلْنَا هَاتُواْ برهانكم} أي حجتكم ودليلكم بأن معي شركاء، فعند ذلك اعترفوا وخرسوا عن إقامة البرهان، ولذا قال: {فَعَلِمُواْ أَنَّ الحق لِلَّهِ} في الإلهية، وأنه وحده لا شريك له {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي غاب عنهم وبطل وذهب ما كانوا يختلقونه من الكذب في الدنيا بأن لله شركاء يستحقون العبادة. ثم عقب سبحانه حديث أهل الضلال بقصة قارون لما اشتملت عليه من بديع القدرة وعجيب الصنع فقال: {إِنَّ قارون كَانَ مِن قَوْمِ موسى} قارون على وزن فاعول اسم أعجمي ممتنع للعجمة والعلمية، وليس بعربيّ مشتق من قرنت. قال الزجاج: لو كان قارون من قرنت الشيء لانصرف. قال النخعي وقتادة وغيرهما: كان ابن عمّ موسى، وهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب، وموسى هو ابن عمران بن قاهث. وقال ابن إسحاق: كان عمّ موسى لأب وأم فجعله أخا لعمران، وهما ابنا قاهث. وقيل: ابن خالة موسى ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة منه، فنافق كما نافق السامري وخرج عن طاعة موسى، وهو معنى قوله: {فبغى عَلَيْهِمْ} أي جاوز الحدّ في التجبر والتكبر عليهم، وخرج عن طاعة موسى وكفر بالله. قال الضحاك: بغيه على بني إسرائيل استخفافه بهم لكثرة ماله، وولده. وقال قتادة: بغيه بنسبته ما آتاه الله من المال إلى نفسه لعلمه، وحيلته. وقيل: كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل، فتعدّى عليهم وظلمهم. وقيل: كان بغيه بغير ذلك مما لا يناسب معنى الآية. {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز} جمع كنز، وهو المال المدّخر. قال عطاء: أصاب كنزاً من كنوز يوسف. وقيل: كان يعمل الكيمياء، و«ما» في قوله: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} موصولة صلتها إنّ وما في حيزها، ولهذا كسرت. ونقل الأخفش الصغير عن الكوفيين منع جعل المكسورة، وما في حيزها صلة الذي، واستقبح ذلك منهم لوروده في الكتاب العزيز في هذا الموضع. والمفاتح جمع مفتح بالكسر، وهو ما يفتح به، وقيل: المراد بالمفاتح: الخزائن، فيكون واحدها مفتح بفتح الميم. قال الواحدي: إن المفاتح: الخزائن في قول أكثر المفسرين، كقوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب} [الأنعام: 59] قال: وهو اختيار الزجاج، فإنه قال: الأشبه في التفسير أن مفاتحه: خزائن ماله. وقال آخرون: هي جمع مفتاح، وهو ما يفتح به الباب، وهذا قول قتادة ومجاهد {لَتَنُوأُ بالعصبة أُوْلِي القوة} هذه الجملة خبر إن وهي واسمها وخبرها صلة ما الموصولة، يقال: ناء بحمله: إذا نهض به مثقلاً، ويقال: ناء بي الحمل: إذا أثقلني، والمعنى: يثقلهم حمل المفاتح. قال أبو عبيدة: هذا من المقلوب، والمعنى: لتنوء بها العصبة، أي تنهض بها. قال أبو زيد: نؤت بالحمل: إذا نهضت به. قال الشاعر: إنا وجدنا خلفاً بئس الخلف *** عبداً إذا ما ناء بالحمل وقف وقال الفراء: معنى تنوء بالعصبة: تميلهم بثقلها كما يقال: يذهب بالبؤس، ويُذهِب البؤس وذهبت به، وأذهبته وجئت به وأجأته ونؤت به، وأنأته، واختار هذا النحاس، وبه قال كثير من السلف. وقيل: هو مأخوذ من النأي، وهو البعد وهو بعيد. وقرأ بديل بن ميسرة: «لينوء» بالياء، أي لينوء الواحد منها أو المذكور، فحمل على المعنى. والمراد بالعصبة: الجماعة التي يتعصب بعضها لبعض. قيل: هي من الثلاثة إلى العشرة، وقيل: من العشرة إلى الخمسة عشر، وقيل: ما بين العشرة إلى العشرين، وقيل: من الخمسة إلى العشرة. وقيل: أربعون. وقيل: سبعون. وقيل: غير ذلك {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ} الظرف منصوب ب {تنوء}. وقيل: ب {آتيناه}، وقيل: ب {بغى}. وردّهما أبو حبان بأن الإيتاء والبغي لم يكونا ذلك الوقت. وقال ابن جرير: هو متعلق بمحذوف، وهو: اذكر، والمراد بقومه هنا: هم المؤمنون من بني إسرائيل. وقال الفراء: هو موسى، وهو جمع أريد به الواحد، ومعنى {لا تفرح}: لا تبطر ولا تأشر {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين} البطرين الأشرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم. قال الزجاج: المعنى لا تفرح بالمال، فإن الفرح بالمال لا يؤدي حقه، وقيل: المعنى: لا تفسد: كقول الشاعر: إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة *** وتحمل أخرى أفرحتك الودائع أي أفسدتك. قال الزجاج: الفرحين، والفارحين سواء. وقال الفراء: معنى الفرحين: الذين هم في حال الفرح، والفارحين: الذين يفرحون في المستقبل. وقال مجاهد: معنى {لا تفرح}: لا تبغ إن الله لا يحبّ الفرحين الباغين. وقيل معناه: لا تبخل إن الله لا يحبّ الباخلين. {وابتغ فِيمَا ءَاتَاكَ الله الدار الآخرة} أي واطلب فيما أعطاك الله من الأموال الدار الآخرة فأنفقه فيما يرضاه الله لا في التجبر والبغي. وقرئ: «واتبع». {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا}. قال جمهور المفسرين: وهو أن يعمل في دنياه لآخرته، ونصيب الإنسان عمره، وعمله الصالح. قال الزجاج: معناه: لا تنس أن تعمل لآخرتك؛ لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا الذي يعمل به لآخرته. وقال الحسن، وقتادة: معناه: لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه، وهذا ألصق بمعنى النظم القرآني {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} أي أحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك بما أنعم به عليك من نعم الدنيا. وقيل: أطع الله واعبده كما أنعم عليك، ويؤيده ما ثبت في الصحيحين، وغيرهما؛ أن جبريل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» {وَلاَ تَبْغِ الفساد فِي الأرض} أي لا تعمل فيها بمعاصي الله {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين} في الأرض. {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِي} قال قارون هذه المقالة ردّاً على من نصحه بما تقدّم، أي إنما أعطيت ما أعطيت من المال لأجل علمي، فقوله: {على عِلْمٍ} في محل نصب على الحال، و{عندي} إما ظرف لأوتيته، وإما صلة للعلم. وهذا العلم الذي جعله سبباً لما ناله من الدنيا، قيل: هو علم التوراة. وقيل: علمه بوجوه المكاسب والتجارات. وقيل: معرفة الكنوز والدفائن. وقيل: علم الكيمياء. وقيل: المعنى إن الله آتاني هذه الكنوز على علم منه باستحقاقي إياها لفضل علمه مني. واختار هذا الزجاج وأنكر ما عداه. ثم ردّ الله عليه قوله هذا، فقال: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} المراد بالقرون: الأمم الخالية، ومعنى أكثر جمعاً: أكثر منه جمعاً للمال، ولو كان المال أو القوّة يدلان على فضيلة لما أهلكهم الله. وقيل: القوّة الآلات. والجمع الأعوان. وهذا الكلام خارج مخرج التقريع والتوبيخ لقارون؛ لأنه قد قرأ التوراة، وعلم علم القرون الأولى وإهلاك الله سبحانه لهم {وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون} أي لا يسألون سؤال استعتاب، كما في قوله: {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [النحل: 84]، {وَمَا هُم من المعتبين} [فصلت: 24] وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ، كما في قوله: {فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] وقال مجاهد: لا تسأل الملائكة غداً عن المجرمين؛ لأنهم يعرفون بسيماهم، فإنهم يحشرون سود الوجوه زرق العيون. وقال قتادة: لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم لظهورها وكثرتها، بل يدخلون النار. وقيل: لا يسأل مجرمو هذه الأمة عن ذنوب الأمم الخالية. {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ} الفاء للعطف على {قال} وما بينهما اعتراض، و{فِي زِينَتِهِ} متعلق بخرج، أو بمحذوف هو حال من فاعل خرج. وقد ذكر المفسرون في هذه الزينة التي خرج فيها روايات مختلفة، والمراد أنه خرج في زينة انبهر لها من رآها، ولهذا تمنى الناظرون إليه أن يكون لهم مثلها كما حكى الله عنهم بقوله: {قَالَ الذين يُرِيدُونَ الحياة الدنيا} وزينتها {الدنيا ياليت لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارون إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ} أي: نصيب وافر من الدنيا. واختلف في هؤلاء القائلين بهذه المقالة، فقيل: هم من مؤمني ذلك الوقت، وقيل: هم قوم من الكفار. {وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم}، وهم: أحبار بني إسرائيل قالوا للذين تمنوا: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ} أي ثواب الله في الآخرة خير مما تمنونه {لّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صالحا} فلا تمنوا عرض الدنيا الزائل الذي لا يدوم {وَلاَ يُلَقَّاهَا} أي هذه الكلمة التي تكلم بها الأحبار، وقيل: الضمير يعود إلى الأعمال الصالحة. وقيل: إلى الجنة {إِلاَّ الصابرون} على طاعة الله والمصبرون أنفسهم عن الشهوات. {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} يقال: خسف المكان يخسف خسوفاً: ذهب في الأرض، وخسف به الأرض خسفاً، أي غاب به فيها، والمعنى: أن الله سبحانه غيبه وغيب داره في الأرض {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله} أي ما كان له جماعة يدفعون ذلك عنه {وَمَا كَانَ} هو في نفسه {مِنَ المنتصرين} من الممتنعين مما نزل به من الخسف. {وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بالامس} أي منذ زمان قريب {يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} أي يقول كل واحد منهم متندّماً على ما فرط منه من التمني. قال النحاس: أحسن ما قيل في هذا ما قاله الخليل وسيبويه ويونس والكسائي: أن القوم تنبهوا، فقالوا: وي. والمتندم من العرب يقول في خلال ندمه: وي. قال الجوهري: وي كلمة تعجب، ويقال: ويك، وقد تدخل وي على كأن المخففة، والمشدّدة ويكأن الله. قال الخليل: هي مفصولة تقول: وي، ثم تبتدئ، فيقول كأن. وقال الفراء: هي كلمة تقرير كقولك: أما ترى صنع الله وإحسانه؟ وقيل: هي كلمة تنبيه بمنزلة ألا. وقال قطرب: إنما هو: ويلك فأسقطت لامه، ومنه قول عنترة: ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها *** قول الفوارس ويك عنتر أقدم وقال ابن الأعرابي: معنى وَيْكَأَنَّ الله: أعلم أن الله. وقال القتيبي: معناها بلغة حمير: رحمة، وقيل: هي بمعنى ألم تر؟ وروي عن الكسائي أنه قال: هي كلمة تفجع {لَوْلا أَن مَّنَّ الله عَلَيْنَا} برحمته وعصمنا من مثل ما كان عليه قارون من البطر، والبغي، ولم يؤاخذنا بما وقع منا من ذلك التمني {لَخَسَفَ بِنَا} كما خسف به. قرأ حفص: {لَخَسَفَ} مبنياً للفاعل، وقرأ الباقون مبنياً للمفعول {وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} أي لا يفوزون بمطلب من مطالبهم {تِلْكَ الدار الآخرة} أي الجنة، والإشارة إليها لقصد التعظيم لها والتفخيم لشأنها، كأنه قال: تلك التي سمعت بخبرها وبلغك شأنها {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض} أي: رفعة وتكبراً على المؤمنين {وَلاَ فَسَاداً} أي عملاً بمعاصي الله سبحانه فيها، وذكر العلوّ والفساد منكرين في حيز النفي يدلّ على شمولهما لكلّ ما يطلق عليه أنه علوّ وأنه فساد من غير تخصيص بنوع خاص، أما الفساد فظاهر أنه لا يجوز شيء منه كائناً ما كان، وأما العلوّ فالممنوع منه ما كان على طريق التكبر على الغير، والتطاول على الناس، وليس منه طلب العلو في الحقّ، والرئاسة في الدين ولا محبة اللباس الحسن والمركوب الحسن والمنزل الحسن. {مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا} وهو أن الله يجازيه بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف {وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يُجْزَى الذين عَمِلُواْ السيئات إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي إلاّ مثل ما كانوا يعملون، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وقد تقدّم بيان معنى هذه الآية في سورة النمل: {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرءان} قال المفسرون: أي أنزل عليك القرآن. وقال الزجاج: فرض عليك العمل بما يوجبه القرآن، وتقدير الكلام: فرض عليك أحكام القرآن وفرائضه {لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ} قال جمهور المفسرين: أي إلى مكة. وقال مجاهد وعكرمة والزهري والحسن: إنّ المعنى: لرادّك إلى يوم القيامة، وهو اختيار الزجاج، يقال: بيني وبينك المعاد، أي يوم القيامة؛ لأن الناس يعودون فيه أحياء. وقال أبو مالك وأبو صالح: لرادّك إلى معاد: إلى الجنة. وبه قال أبو سعيد الخدري، وروي عن مجاهد. وقيل: {إلى مَعَادٍ}: إلى الموت {قُل رَّبّي أَعْلَمُ مَن جَاء بالهدى وَمَنْ هُوَ فِي ضلال مُّبِينٍ} هذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنك في ضلال، والمراد: من جاء بالهدى هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن هو في ضلال مبين: المشركون، والأولى حمل الآية على العموم، وأن الله سبحانه يعلم حال كلّ طائفة من هاتين الطائفتين، ويجازيها بما تستحقه من خير وشرّ. {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب} أي ما كنت ترجو أنا نرسلك إلى العباد، وننزل عليك القرآن. وقيل: ما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب بردّك إلى معادك، والاستثناء في قوله: {إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ} منقطع، أي لكن إلقاؤه عليك رحمة من ربك، ويجوز أن يكون متصلاً حملاً على المعنى، كأنه قيل: وما ألقى إليك الكتاب إلاّ لأجل الرحمة من ربك. والأوّل أولى، وبه جزم الكسائي والفرّاء {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين} أي عونا لهم، وفيه تعريض بغيره من الأمة. وقيل: المراد: لا تكوننّ ظهيراً لهم بمداراتهم. {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايات الله بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} أي لا يصدنك يا محمد الكافرون وأقوالهم وكذبهم وأذاهم عن تلاوة آيات الله والعمل بها بعد إذ أنزلها الله إليك وفرضت عليك. قرأ الجمهور بفتح الياء وضم الصاد من صدّه يصدّه. وقرأ عاصم بضم الياء وكسر الصاد، من أصدّه بمعنى صدّه. {وادع إلى رَبّكَ} أي ادع الناس إلى الله، وإلى توحيده، والعمل بفرائضه، واجتناب معاصيه {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} وفيه تعريض بغيره كما تقدّم، لأنه لا يكون من المشركين بحال من الأحوال، وكذلك قوله: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ} فإنه تعريض لغيره. ثم وحد سبحانه نفسه، ووصفها بالبقاء والدوام، فقال: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْء} من الأشياء كائناً ما كان {هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} أي إلاّ ذاته. قال الزجاج: وجهه منصوب على الاستثناء، ولو كان في غير القرآن كان مرفوعاً بمعنى كلّ شيء غير وجهه هالك، كما قال الشاعر: وكلّ أخ مفارقه أخوه *** لعمر أبيك إلاّ الفرقدان والمعنى كلّ أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه. {لَهُ الحكم} أي القضاء النافذ يقضي بما شاء، ويحكم بما أراد {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} عند البعث؛ ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، لا إله غيره سبحانه وتعالى. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {سَرْمَداً} قال: دائماً. وأخرج ابن أبي حاتم عنه {وَضَلَّ عَنْهُم} يوم القيامة {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} قال: يكذبون في الدنيا. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه عنه أيضاً: {إِنَّ قارون كَانَ مِن قَوْمِ موسى} قال: كان ابن عمه، وكان يتبع العلم حتى جمع علماً فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى، وحسده، فقال له موسى: إن الله أمرني أن آخذ الزكاة، فأبى، فقال: إن موسى يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة، وجاءكم بأشياء فاحتملتموها، فتحتملون أن تعطوه أموالكم؟ فقالوا: لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل، فنرسلها إليه، فترميه بأنه أرادها على نفسها، فأرسلوا إليها، فقالوا لها: نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك، قالت: نعم، فجاء قارون إلى موسى فقال: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك، قال: نعم، فجمعهم فقالوا له: ما أمرك ربك؟ قال: أمرني أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً، وأن تصلوا الرحم وكذا وكذا، وأمرني إذا زنا، وقد أحصن أن يرجم، قالوا: وإن كنت أنت. قال: نعم، قالوا: فإنك قد زنيت. قال: أنا؟ فأرسلوا للمرأة، فجاءت، فقالوا: ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى: أنشدك بالله إلاّ ما صدقت. قالت: أما إذا نشدتني بالله فإنهم دعوني وجعلوا لي جعلاً على أن أقذفك بنفسي، وأنا أشهد أنك بريء، وأنك رسول الله، فخرّ موسى ساجداً يبكي، فأوحى الله إليه: ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض، فمرها فتطيعك، فرفع رأسه، فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم، فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى، فقال: خذيهم، فأخذتهم إلى ركبهم، فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى، فقال: خذيهم، فأخذتهم إلى أعناقهم، فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى، فقال: خذيهم، فأخذتهم فغشيتهم، فأوحى الله: يا موسى سألك عبادي وتضرّعوا إليك فلم تجبهم، وعزّتي لو أنهم دعوني لأجبتهم. قال ابن عباس: وذلك قوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} خسف به إلى الأرض السفلى. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن خيثمة قال: كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود، كل مفتاح مثل الأصبع، كل مفتاح على خزانة على حدة، فإذا ركب حملت المفاتيح على سبعين بغلاً أغرّ محجل. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عنه قال: وجدت في الإنجيل أن بغال مفاتيح خزائن قارون غر محجلة لا يزيد مفتاح منها على إصبع لكل مفتاح كنز. قلت: لم أجد في الإنجيل هذا الذي ذكره خيثمة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {لَتَنُوأُ بالعصبة} قال: تثقل. وأخرج ابن المنذر عنه قال: لا يرفعها العصبة من الرجال أولو القوّة. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: العصبة: أربعون رجلاً. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين} قال: المرحين، وفي قوله: {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا} قال: أن تعمل فيها لآخرتك. وأخرج ابن مردويه عن أوس بن أوس الثقفي، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} في أربعة آلاف بغل. وقد روي عن جماعة من التابعين أقوال في بيان ما خرج به على قومه من الزينة، ولا يصحّ منها شيء مرفوعاً، بل هي من أخبار أهل الكتاب كما عرفناك غير مرّة، ولا أدري كيف إسناد هذا الحديث الذي رفعه ابن مردويه، فمن ظفر بكتابه، فلينظر فيه. وأخرج الفريابي عن ابن عباس في قوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} قال: خسف به إلى الأرض السفلى. وأخرج المحاملي، والديلمي في مسند الفردوس عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {تِلْكَ الدار الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً} قال: «التجبر في الأرض والأخذ بغير الحق» وروي نحوه عن مسلم البطين، وابن جريج، وعكرمة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير: {لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض} قال: بغياً في الأرض. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: هو الشرف والعلوّ عند ذوي سلطانهم. وأقول: إن كان ذلك للتقوّي به على الحق، فهو من خصال الخير لا من خصال الشرّ. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب قال: إن الرجل ليحبّ أن يكون شسع نعله أفضل من شسع نعل صاحبه، فيدخل في هذه الآية: {تِلْكَ الدار الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً} قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكر هذه الرواية عن عليّ رضي الله عنه: وهذا محمول على من أحبّ ذلك لا لمجرّد التجمل، فهذا لا بأس به. فقد ثبت: أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أحبّ أن يكون ثوبي حسناً ونعلي حسنة. أفمن الكبر ذلك؟ قال: «لا، إن الله جميل يحبّ الجمال» وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن عليّ بن أبي طالب: أنه قال: نزلت هذه الآية، يعني {تِلْكَ الدار الآخرة} إلخ في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن مردويه عن عدي بن حاتم قال: لما دخل عليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ألقى إليه وسادة، فجلس على الأرض، فقال: أشهد أنك لا تبغي علوًّا في الأرض، ولا فساداً فأسلم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك. وأخرج أيضاً ابن مردويه عن عليّ بن الحسين بن واقد: أن قوله تعالى: {إِنَّ الذى فَرَضَ عَلَيْكَ القرءان} الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة حين خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي من طرق عن ابن عباس في قوله: {لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ} قال: إلى مكة. زاد ابن مردويه كما أخرجك منها. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري: {لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ} قال: الآخرة. وأخرج ابن أبي شيبة، والبخاري في تاريخه، وأبو يعلى وابن المنذر عنه أيضاً في قوله: {لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ} قال: معاده: الجنة، وفي لفظ: معاده آخرته. وأخرج الحاكم في التاريخ، والديلمي عن عليّ بن أبي طالب قال: {لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ}: الجنة. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن مردويه عنه قال: لما نزلت: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] قالت الملائكة: هلك أهل الأرض، فلما نزلت: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت} [آل عمران: 185] قالت الملائكة: هلك كلّ نفس، فلما نزلت: {كُلُّ شَئ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} قالت الملائكة: هلك أهل السماء والأرض. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس: {كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} قال: إلاّ ما أريد به وجهه.
|